12/06/2023 - 12:21

المتفائل... سيرة حياة توفيق زيّاد الاجتماعيّة | فصل

المتفائل... سيرة حياة توفيق زيّاد الاجتماعيّة | فصل

كتاب «المتفائل... سيرة حياة توفيق زيّاد الاجتماعيّة»، لتمير سوريك (2023)

 

صدر حديثًا عن «المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة - مدار» كتاب «المتفائل... سيرة حياة توفيق زيّاد الاجتماعيّة»، لتمير سوريك، ترجمه عن الإنجليزيّة باسيليوس بواردي وقدّم له أنطوان شلحت. يقدّم الكتاب الواقع في 280 صفحة، أوّل سيرة حياة اجتماعيّة حول حياة الشاعر والمناضل والقائد الفلسطينيّ توفيق زيّاد (1929-1994)، منذ نشأته في فلسطين في ظلّ الاستعمار البريطانيّ وصولًا إلى نضاله داخل صفوف «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» بعد نكبة عام 1948، وبداية صعوده شاعرًا رفضويًّا في ستّينات القرن العشرين الماضي، ضمن جيل شعراء شارك في تشكيل هويّة الفلسطينيّين الوطنيّة، والتعبير السياسيّ عنهم.

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة جزءًا من فصل الكتاب الأوّل بالتعاون مع الناشر. 

 


 

الشيوعيّة ومعاداة الاستعمار

 

وُلِدَ توفيق زيّاد في 7 أيّار (مايو) 1929 في مدينة الناصرة. معرفتنا عن طفولته ومراهقته محدودة جدًّا لأنّ زياد لم يترك مذكّرات مكتوبة تشير إلى هذه الفترة. في المقابلات الّتي أُجْرِيَتْ معه، شارك مقابليه بطرائف من حياته، لكنّ غالبيّة ما نعرفه عن شبابه جاءنا من شهادات جمعها الصحافيّ نظير مجلّي من أصدقاء الطفولة وزملاء المدرسة، وتلك الّتي نشرتها بلديّة الناصرة في كتاب تذكاريّ صدر بعد وفاته بفترة قصيرة العام 1994. أكثر ما سمعته من الناس في الناصرة عن شباب توفيق زيّاد مشابه لما جاء في الكتاب مع اختلافات قليلة. أصبحت هذه القصص مقبولة، وتشكّل أجزاءً من الأسطورة الّتي تقوم عليها صورة توفيق زيّاد العامّة.

هذا لا يعني بالضرورة أنّ القصص غير صحيحة، لكنّه يعني بالتأكيد أنّها تقدّم لنا وجهة نظر جزئيّة ملوّنة بوجهات النظر وأجندات أولئك الّذين رووا القصص وحرّروا الكتاب.

يمكن تتبّع نزعة توفيق زيّاد الشعريّة وإعادتها إلى والده أمين، الّذي كانت لديه "لغة شعريّة رائعة"...

كتب نظير مجلّي أنّ أمين زيّاد، والد توفيق، كان رجلًا عصاميًّا بنى نفسه بنفسه بعد أن توفّي والده وهو طفل صغير. ذهب إلى دمشق ليدرس الطبّ، وأثناء دراسته كان يكسب عيشه من نقل البضائع بين فلسطين ودمشق على حمار اشتراه بنفسه. لقد أجبرته الظروف السياسيّة والاقتصاديّة أن يتنازل عن حلمه بأن يصبح طبيبًا، وعندما جمع مالًا كافيًا، استقرّ في الناصرة، فتح مخزنًا للخضراوات، وتزوّج فتاة اسمها ’نزهة‘. يمكن تتبّع نزعة توفيق زيّاد الشعريّة وإعادتها إلى والده أمين، الّذي كانت لديه "لغة شعريّة رائعة".

في العام 1958، إثر اعتقال توفيق وأخيه الأصغر بسبب نشاطهما السياسيّ، أجرت شاعرة وصحافيّة يهوديّة شيوعيّة باسم حايا كدمون مقابلة مع أمين زيّاد. ساعدها أحد المترجمين أثناء المقابلة، ولكنّ أمين شعر بالإحباط لأنّه لم يستطع أن ينقل المعنى الكامل لكلماته باللغة العبريّة. أبلغ أمين الشاعرة كدمون أنّ شرطه المسبق لزيارتها التالية هو أن يكون المترجم شاعرًا، لأنّه هو نفسه يتكلّم بلغة شعريّة وهو يرغب في أن يصغي إليه شاعر يهوديّ أيضًا، وكذلك إلى كلمات ابنه الشعريّة بكلّ قوّتها وأصالتها.

توفّي صبحي، الابن الأوّل لنزهة وأمين زيّاد بعد فترة قصيرة من ولادته (وهو حدث لم يكن نادرًا في تلك الأيّام، إذ كانت نسبة وفيّات الأطفال الرضّع بين الفلسطينيّين المسلمين في العام 1927 تزيد عن الخمس). لقد أطلقوا اسم ’صبحي‘ على ولدهما الثاني، الّذي وُلِدَتْ بعد ولادته فتاة هي أيضًا صغيرة السنّ. لكيّ يغيّروا الحظّ السيّء، قرّر كبار العائلة بأن يغيّروا اسم صبحي إلى ’توفيق‘.

زملاء صفّ توفيق الّذين قابلهم نظير مجلّي تذكّروه كولد حادّ اللسان يعبّر عن نفسه بوضوح كبير، وله مزاج مرح. لقد وصفه سميح رزق كمعلّق سياسيّ جيّد. تذكّر زميله في الصفّ وصديقه محمود خُطبا وقفته الثابتة في صفّ المضطهدين وتذكّر تواضعه وحبّه للناس. أضاف محمود أنّ توفيق، عكس الطلّاب الآخرين من المدينة، لم يكن مغرورًا أو متغطرسًا، بل طوّر علاقات صداقة مع أبناء صفّه من القرى. جاره وصديقه إبراهيم طه قال إنّ توفيق زيّاد في طفولته كان يقضي وقته في اللعب وكان يقدّر النزاهة والعدالة. نحن نعرف أيضًا أنّ توفيق زيّاد بدأ كتابة الشعر ونشره وهو في سنّ المراهقة. مع أنّه اشْتُهِرَ في حياته لاحقًا بالتزامن بالشعر السياسيّ، فقد كتب في شبابه شعر الغزل، وفي منتصف الأربعينات من القرن العشرين، نشر أشعاره تحت اسم مستعار في «صحيفة المهماز» الّتي كانت تصدر في حيفا، وفي الصحيفة الأسبوعيّة «الحرّيّة» الّتي كانت تصدر في يافا.

تحدّد رواية نظير مجلّي عن توفيق زيّاد ثلاث قضايا سياسيّة واجتماعيّة واسعة تشكّل نظرة توفيق زيّاد المركزيّة إلى العالم: الكفاح القوميّ المعادي للاستعمار، والشيوعيّة، والتسامح الدينيّ...

تحدّد رواية نظير مجلّي عن توفيق زيّاد ثلاث قضايا سياسيّة واجتماعيّة واسعة تشكّل نظرة توفيق زيّاد المركزيّة إلى العالم: الكفاح القوميّ المعادي للاستعمار، والشيوعيّة، والتسامح الدينيّ. يعكس تركيز مجلّي الجزئيّ على هذه المواضيع التنافس السياسي في التسعينات من القرن الماضي بين الشيوعيّين، ويعكس تحدّيين سياسيّين كانا يسيطران على التحدّيات السياسيّة: القوميّون، الّذين انتقدوا ما اعتبروه التأكيد غير الكافي للشيوعيّين على الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، والحركة الإسلاميّة الّتي هاجمت العلمانيّة الشيوعيّة. النصّ الّذي أعدّه مجلّي يمثّل جوابًا ضمنيًّا على هذه الانتقادات، مؤكّدًا وطنيّة توفيق زيّاد (وبالتالي، وطنيّة حزبه)، وبصورة ضمنيّة يمثّل انتقادًا لعدم التسامح عند الإسلاميّين. بغضّ النظر عن حسابات مجلّي السياسيّة وقصيرة الأمد، فإنّ روايته، في الحقيقة، تلتقط الأفكار الثلاثة المتشابكة الّتي شكّلت الوعي السياسيّ لتوفيق زيّاد.

 

القوميّة والشيوعيّة

لقد برزت الهويّة القوميّة بين المواطنين الفلسطينيّين وتشكّلت مع الكفاح المعادي للاستعمار وضدّ الصهيونيّة، وقد تطوّرت أكثر من خلال حركات شعبيّة تجاوزت الاختلافات الطبقيّة والدينيّة والإقليميّة. على النقيض من ذلك، فإنّ بعض التصريحات ذات الأفكار الاشتراكيّة كانت واضحة في خطاب المثقّفين والشعراء القوميّين الفلسطينيّين منذ العام 1920. على نقيض ذلك، فإنّ الشيوعيّة، كخطّة سياسيّة صريحة وواضحة، كانت هامشيّة جدًّا بين الفلسطينيّين، على الأقلّ حتّى العام 1948. العرب الفلسطينيّون الّذين اعتنقوا الشيوعيّة غالبًا ما اضطرّوا أن يتعاملوا مع توتّرات أساسيّة بين القوميّة والشيوعيّة.

لقد شغلت مسألة التوافق بين القوميّة والشيوعيّة المفكّرين الشيوعيّين والسياسيّين منذ كارل ماركس. لقد عزّز التوتّر بين طموحات الشيوعيّة والتوجّه القوميّ داخل مجموعات القوميّة الحديث البحث الأكاديميّ الواسع ومحاولات سياسيّة كثيرة لتجاوز هذه الفجوة. في الناصرة، على أيّة حال، كان النشاط الشيوعيّ جزءًا لا يتجزّأ من النشاط القوميّ. لقد شكّل تطوّرهما المتّصل في المرحلة المبكّرة خلفيّة لطفولة توفيق زيّاد ومرحلة المراهقة لديه، وقد خاض هو ونشاط شباب آخرون تجربة القوميّة والسياسات اليساريّة كرُزمة واحدة.

شارك سكّان الناصرة في الحركة القوميّة العربيّة الفلسطينيّة من البداية. لقد أرسلت مدينة الناصرة، الّتي كان يبلغ عدد سكّانها 7000 نسمة، مندوبين عنها إلى «المؤتمر العربيّ الفلسطينيّ»، الّذي انعقد في القدس عام 1919، كردّ على «وعد بلفور». في العام 1920، أصدر مندوبو الناصرة إلى المؤتمر رسالة احتجاج أدانت الحركة الصهيونيّة، بينما أعلنوا تضامنهم مع يهود فلسطين، ويدلّ هذا الموقف على أنّ الميول المعادية للاستعمار والميول العالميّة في الناصرة سبقت ظهور الحزب الشيوعيّ.

 

أعوام الشيوعيّة المبكّرة 

في أعوامها الأولى، لم تُظْهِر الشيوعيّة في فلسطين أيّ علامات حول تحالف مستقبليّ مع القوميّة العربيّة، وفي الحقيقة، فإنّ «الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ» الّذي تشكّل في العام 1920 كان مجموعة من العمّال المهاجرين اليهود. منذ العام 1921، كان نشاط الحزب يُعْتَبَر غير قانونيّ، لذلك فقد كان تجنيد الأعضاء فيه يجري بطريقة سرّيّة. خلال كامل فترة «الانتداب البريطانيّ»، أطلقت الصحف الفلسطينيّة الرئيسيّة مثل «فلسطين» و«الكرمل»، هجومات متكرّرة على الشيوعيّة وعلى كلّ مَنْ اعتبرتهم شركاء لها؛ اليهوديّة والصهيونيّة.

فقط بعد «انتفاضة البراق» عام 1929، وتحت الضغط الثقيل من «الكومنترن – الشيوعيّة الدوليّة»، أصبح تعريب أعضاء الحزب هدفًا رئيسيًّا رسميًّا...

في السياق الفلسطينيّ، في عشرينات القرن الماضي، كان الرابط بين الشيوعيّة واليهود له أساس في الواقع الاجتماعيّ. بحسب كلمات نجاتي صدقي، العضو العربيّ الفلسطينيّ الأوّل في «الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ»: "الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين حملت معها عادات وأفكارًا وتقاليد اجتماعيّة كانت غريبة على البيئة العربيّة الفلسطينيّة. وفي ذلك الوقت بالذات، في أوائل العام 1920، سمعنا عن البلشفيّة، والفوضويّة، وماركس، ولينين، وتروتسكي، وهرتسل". انضمّ أوّل عضو عربيّ لـ «الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ» عام 1924، وفي عام 1925 أصبح عدد الأعضاء ثمانية. لقد استثمر الحزب في تنشئتهم الأيديولوجيّة الاجتماعيّة، وفي العام 1927، أرسل الحزب أربعة أعضاء لتلقّي التدريب السياسيّ في الاتّحاد السوفييتيّ.

فقط بعد «انتفاضة البراق» عام 1929، وتحت الضغط الثقيل من «الكومنترن – الشيوعيّة الدوليّة»، أصبح تعريب أعضاء الحزب هدفًا رئيسيًّا رسميًّا. في ربيع 1930، كان هناك نحو عشرين عضوًا عربيًّا من بين مئة عضو تقريبًا في الحزب. كان هناك أيضًا ستّة أو سبعة أعضاء عرب يدرسون في «الجامعة الشيوعيّة لكادحي الشرق في موسكو». في أواسط العام 1931، كان هناك نحو خمسين عضوًا عربيًّا من بين 300 عضو في الحزب. كان الالتحاق بالثورة الشيوعيّة في البلاد أمرًا وشيكًا. لقد طمح الحزب أن يشعل الثورة ضدّ الاضطهاد البريطانيّ والأزمة الاقتصاديّة، لكنّ الكادر الكلّيّ تراجع، وفي صيف 1932، كان هناك 25 عضوًا عربيًّا فقط في الحزب. بعد بذْل جهد مكثّف لتجنيد أعضاء جدد، تضاعف عدد الأعضاء العرب مع نهاية العام نفسها. في العام 1934، عيّن الحزب أوّل سكرتير عربيّ له هو رضوان الحلو.

 


 

تمير سوريك

 

 

عالم اجتماع ومؤرّخ يدرّس في «جامعة بنسلفانيا». يبحث الثقافة كميدان للنزاع والمقاومة، وتسلّط أبحاثه الضوء على الدور السياسيّ للرياضة والشعر والذاكرة الجماعيّة، فضلًا عن التوتّرات حول حدود المجالين الدينيّ والعلمانيّ.

 

 

التعليقات